
الحياة تحت الحصار: فنان حرب
ترعرع محمد أبو حشيش, وهو شاب غزي ونحَّات بارع، في ظل ظروف قاسية للغاية بسبب الاحتلال، وكان عليه أن يتغلب على العديد من العواقب، فبدلاً من الاستسلام، قرر محمد أن يجسد معاناته وحزنه عن طريق نحت مجسمات فنية فاخرة.
ولد محمد في رفح بتاريخ 11 نوفمبر 1988 ونشأ في أحضان عائلة كبيرة مكونة من أب وأم وثلاث بنات وأربعة أولاد. ومثل معظم الأطفال في غزة، درس محمد في مدارس الأونروا، حيث بدأ في تطوير شغفه تجاه الفن في سن مبكرة وظهر ذلك من خلال عمل رسمات متواضعة على السبورة. في ذلك الوقت، لم تُعطَ المهارات الفنية أي اهتمام ولا تشجيع في المدرسة وحتى قراره بأن يدرس الفنون الجميلة في جامعة الأقصى لم يعترف به المجتمع. على الرغم من ذلك، لاحظ أستاذه في الجامعة مدى مهارة موهبته حتى أنه عرض عليه ليعمل في مشروعه الخاص للتصميم الداخلي. وبمساعدة أستاذه، استطاع محمد أن يطور علاقاته مع مهندسين معماريين آخرين في البلاد، واكتسب الخبرة منهم ومن ثم قام بفتح مرسم خاص به وبدأ بإعطاء دروس فن لأطفال المدارس.
عُلِقَت رحلة محمد خلال العدوان الإسرائيلي في عام 2014، والذي كان له الأثر الكبير على حياة محمد على الصعيدين الشخصي والمهني، فقد خسرت عائلته ابنهم هاني، والذي لم يكن بالنسبة لمحمد “مجرد أخ أو صديق بل كان مساعدي في العمل”. لقد كانت العلاقة بين الأخوين لا توصف، قالها محمد وعيناه تلمؤهما الدموع.
تلقت العائلة خبر وفاة هاني في يوم الاثنين الموافق 23 يوليو 2014 أثناء وقت الإفطار، فقد طُلب منهم التوجه للمستشفى للتعرف على جثته. تمنى محمد ودعا الله أن لا يجد جثة أخيه داخل ثلاجة الموتى، ولكن تعرف عليه من قميصه الأسود وبنطاله الأزرق اللذان ذكراه بآخر مرة رأى فيها أخاه هاني. أضاف محمد وهو يرتعش، ” كانت الجثث متفحمة ويصعب التعرف عليها.” استطرد بالوصف قائلاً، ” كان هيكل الجمجمة غير موجود، فروة الرأس ممزقة، ولم يكن هنالك جسد، فقط جزء من كتف واحد، العمود الفقري، ساق واحدة ونصف من الساق الأخرى.” غمرت الدموع عيني محمد حينما قال، “لو كنت أعلم أنه سوف يغادر المنزل ولن يعود لما سمحت له بالذهاب.”
لفترة من الزمن، يأس محمد من الحياة ولم يقم بأي عمل فني، بدا له وكأن الحياة قد توقفت. رغم ذلك، كانت لديه فكرة عن عمل معرض قبل الحرب، نابعة من تجربة شخصية بالعثور على جسد طفل ميت أثناء دفنه جدته. عززت خسارة أخيه ورؤية الحالة المهينة التي كان عليها جسده شعوره بأن كل إنسان يستحق أن يعيش ويدفن بكرامة. وبعد عام من الحزن، عاد محمد للعمل في مرسمه وبدأ بصنع مجسمات لأيدي وأقدام مصنوعة من شمع العسل. صوَّر له ملمس الشمع الصدق واعتقد أن أبعاده وجمالياته تحاكي جسد الإنسان، خاصة أن اللون قريب جداً من جلد الانسان. مستوحياً التجربة من أخيه، لم يرغب محمد أن يركز المشروع على تجربته الخاصة فقط، ولكن أن يكون مكرساً لضحايا الحرب المدنيين بشكل عام. ابتدع محمد خمس مجسمات من الشمع، والتي أصبحت القطع الفنية لمعرضه “كرامات”.
استمد عنوان المعرض معناه من كرامة وشرف الإنسان ممثلاً في معاناة الشعب الفلسطيني اليومية للحفاظ على القيم التي تحاول القوة المحتلة أن تنتزعها منه، فقد عكس معرض “كرامات” الواقع المرير والأليم الذي يعيشه الفلسطينيون يومياً. لم تكمن أهمية المعرض فقط في عرض الفن ولكن لإظهار الصدمة الإنسانية والشخصية التي تعرض لها محمد ومئات العائلات الأخرى. أسفر العدوان الإسرائيلي في العام 2014 عن مقتل 2216 فلسطينياً – من بينهم العديد ممن دفنوا وأعضاؤهم مفقودة. لا يوجد مخلوق على وجه الأرض يحتمل فكرة دفن نصف جسد لأخٍ، قريب أو صديق. وتعكس هذه المجسمات متقنة الصنع أيضاً العاطفة والغضب والإحباط الناجم عن الحرب، فهي ترمز إلى مفهوم الحياة والموت.
على الرغم من الحصار والعواقب المأساوية الناتجة عن تقييد حرية الحركة والظروف المعيشية الصعبة، شارك محمد في العديد من المعارض وورش العمل المحلية والدولية. ومن بين تلك المعارض: ” يومياتنا في غزة “، الذي عرض في عمان، “آثار”، وهو المعرض الذي أقيم في رام الله، و”أفكار تتفتح”، الذي عرض في مدينتي غزة والقدس ومناطق أخرى في فلسطين.
وبالنسبة لمساهمته البارزة في مجال النحت، فاز محمد بجائزة المهرجان الأول للفنون التشكيلية في غزة في عام 2010.
وكان آخر وأهم معرض له ” كرامات ” الذي عرض في غزة ، بالتعاون مع مؤسسة عبد المحسن القطان والمركز الثقافي الفرنسي. وبالرغم من القيود المشددة التي تفرضها على حركة المدنيين والبضائع، لم تتمكن قوات الاحتلال من ايقاف محمد عن مواصلة طموحه وإيصال أعماله الفنية للعالم.
يسعى المركز إلى التأكيد على حالات مثل قصة محمد لإظهار مدى تأثير الحصار على الحياة اليومية، فما هم إلا مدنيون يطالبون بحقوقهم الأساسية. ويُنتهك مفهوم حقوق الإنسان بشكل منتظم بسبب تعرض الفلسطينيين لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكان لسياسة العقاب الجماعي التي تفرضها إسرائيل بالإضافة لعدوان 2014 عواقب وخيمة على حياة نحو 1.8 مليون شخص.